فصل: تفسير الآية رقم (67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (61- 62):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} [61- 62].
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} أي: تحيةً وتكريماً: {فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} كما قال في الآية الأخرى: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76].
{قَالَ} أي: جراءةً على الرب وكفراً به: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي: أخبرني عن هذا الذي كرمته عليَّ بأن أمرتني بالسجود له، لِمَ كرمته عليَّ؟. أو المعنى: أخبرني أهذا الذي كرمته عليَّ: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} أي: لأعمنَّهم وأهلكنَّهم بالإغواء، إلا المخلصين.

.تفسير الآيات (63- 65):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤكُمْ جَزَآءً مَّوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [63- 65].
{قَالَ اذْهَبْ} أي: امض لشأنك الذي اخترته: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤكُمْ جَزَآءً مَّوْفُوراً} أي: جزاءً مكملاً.
{وَاسْتَفْزِزْ} أي: استخف وأزعج: {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} أي: أن تستفزه فتخدعه: {بِصَوْتِكَ} أي: بدعائك إلى الفساد. وعبَّر عن الدعاء بالصوت تحقيراً له حتى كأنه لا معنى له: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي: صح عليهم، من الجلبة- بفتحات- وهي الصياح. والخيل الخيالة، أي: ركبان الخيل مجازاً. وأصل معنى الخيل الأفراس. والرّجل اسم جمع للراجل وهو خلاف الفارس، والمراد الأعوان والأتباع مطلقاً.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟.
قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه، بمغوار- بكسر الميم، الكثير الغارة وهي الحرب والنهب- أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم، ويقلقهم عن مراكزهم. وأجلب عليهم بجنده من خيالة حتى استأصلهم- أي: فالكلام استعارة تمثيلية مركبة، استعير فيه المجموع والهيئة للمجموع والهيئة. ووجهه ما ذكره من استئصالهم وإهلاكهم، أو غلبته وتسخيره لهم. وجوَّز أن يكون التجوز في المفردات تجوزاً بصوته عن دعائه إلى الشر بالوسوسة، وبخيله ورجله عن كل راكب وماش من أهل العبث والفساد بإغوائه {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ} أي: بحمله إياهم على إنفاقها في المعاصي وجمعها من حرام والتصرف فيها تحريماً وتحليلاً بما لا يرضى: {وَالأَوْلادِ} أي: بالتفاخر فيهم وتضليلهم بصبغهم غير صبغة الدين ووأدهم، ونحو ذلك مما يعصى الله بسببه: {وَعِدْهُمْ} أي: المواعيد الباطلة والأماني الكاذبة من سلامة العاقبة ودوام الغلبة: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} وهو تزيين الباطل بزينة الحق.
{إِنَّ عِبَادِي} أي: المخلصين: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي: تسلط بالإغواء: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي: كفيلاً لهم يتوكلون عليه ولا يلجؤون في أمورهم إلا إليه. وهو كافيهم.
وقد أشار القاشانِيِّ إلى أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان على أصناف. وعبارته: تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام؛ لأن الاستعدادات متفاوتة. فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه. أي: استخفه بصوته، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة. ومن كان قوي الاستعداد، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية، أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية، فليس له إلى إغوائه سبيل، كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وإلا فإن كان منغمساً في الشواغل الحسية، غارزاً رأسه في الأمور الدنيوية، شاركه في أمواله وأولاده، بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة، بحبهم كحب الله. ويسول له التمتع بهم، والتكاثر والتفاخر بوجودهم. ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة. وإن لم ينغمس، فإن كان عالماً بصيراً بتسويلاته، أجلب عليه بخيله ورجله. أي: مكر به بأنواع الحيل. وكاده بصنوف الفتن. وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش. وغره بالعلم وحمله على الإعجاب، وأمثال ذلك حتى يصير ممن أضله الله على علم. وإن لم يكن عالماً بل عابداً متنسكاً، أغواه بالوعد والتمنية. وغرَّه بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون. انتهى.
ثم بيَّن تعالى بعضاً من آيات وحدانيته وألوهيته بقوله:

.تفسير الآية رقم (66):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [66].
{رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} أي: يُسَيِّر لكم السفن في البحر: {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: من رزقه. والآية صريحة في ركوب البحر للتجارة: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} حيث سهل لكم أسباب ذلك.
قال أبو السعود: وهذا تذكير لبعض النعم التي هي من دلائل التوحيد، وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر، تكملة لما مر من قوله: {فَلاَ يَمْلِكُون} الآية، وذلك قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} [67].
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} أي: خوف الغرق: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} أي: ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه وتعبدونه، إلا إياه وحده. فإنكم لا تذكرون سواه. فطرةُ فطر الله الخلق عليها.
وهذه الآية مما يستدل بها على الرجوع إلى الفطرة الصحيحة. وقد استدل لكثير من الأصول بها، كما يعلم ذلك من كلام الأئمة في مسائل شتى. كمسألة وجود الخالق وعلوه، والمعاد وغيرها. وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} أي: من الغرق: {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} أي: عن التوحيد: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} أي: بأنعم الله. والجملة كالتعليل للإعراض. قال الشهاب: وفيه لطف، حيث أعرض عن خطابهم بخصوصهم. وذكر أن جنس الإنسان مجبول على هذا. فلما أعرضوا أعرض الله عنهم. ثم خوفهم تعالى بقدرته العظيمة، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (68- 69):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [68- 69].
{أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} أي: يغوِّره بكم: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أي: ريحاً ترمي بالحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدُّ عليكم من الغرق: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي: من يتوكل بصرف ذلك عنكم {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} أي: يقوي دواعيكم لركوب البحر: {تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ} أي: ريحاً شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته، فتكسر السفينة وسط البحر: {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} أي: مطالباً بما فعلنا. مثل من يطالب على مُغْرِقٍ سوانا. وهذا كقوله: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15].

.تفسير الآية رقم (70):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [70].
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أي: بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما، وتحصيلها: {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أي: فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي: عظيماً، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده.
تنبيه:
ظاهر قوله تعالى: {على كثير} أن ثمة من لم يفضل البشر عليه. قيل: وهم الذوات المقدسة من الملأ الأعلى. أعني الملائكة.
قال القاشانِيِّ: وأما أفضلية بعض الناس، كالأنبياء على الملائكة المقربين، فليست من جهة كونهم بني آدم. بل من جهة السر المودع فيهم، المشار إليه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة. وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ** فلي فيه معنى شاهدٌ بأُبُوَّتِي

وذهب قوم إلى تأويل الكثير بـ الكل كما أوَّل القليل بمعنى العدم في قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]. والمعنى: وفضلناهم على الجم الغفير من خلقنا، أي: جميع المخلوقات.
قال القاشانِيِّ: على أن تكون من للبيان والمبالغة في تعظيمه، بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف. أي: كثير، وأي كثير، وهو جميع مخلوقاتنا لدلالة من على العموم، ولا يخفى أنه لا يلزم من تفضيل جنس على جنس آخر تفضيل كل فرد منه على كل فرد من الآخر. والمسألة معروفة في كتب الكلام.
وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (71- 72):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [71- 72].
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي: بمن ائتموا به من نَبِيٍّ أو مُقَدَّمٍ في الدين أو كتاب أو دين. فيقال: يا أتباع فلان! يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير! ويا أصحاب كتاب الشر! قالوا: وفيه شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال القاشانِيِّ: أي: نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه، سواء كان صورة نبي آمنوا به، أو إمام اقتدوا به، أو دين أو كتاب، أو ما شئت. على أن تكون الباء بمعنى مع. أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه؛ لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم، المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم.
ورجح ابن كثير، رحمه الله، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال، لقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] الآية، وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28- 29]. وما رجحه رحمه الله هو الصواب؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات، هو الرجوع إلى نظائرها. وقوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ} أي: من هؤلاء المدعوين: {كِتَابَهُ} أي: كتاب أعماله: {بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ} أي: فرحاً وابتهاجاً بما فيه من العمل الصالح: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: لا ينقصوه من أجورهم قدر فتيل، وهو ما في شق النواة، أو ما تفتله بين أصبعيك، أو هو أدنى شيء، فإن الفتيل مثل في القلة، كقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم: 60].
{وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي: ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلاً منه في الدنيا؛ لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسباباً يمكنه الاهتداء بها. وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد. ولم يبق هناك شيء من ذلك. قيل: العمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات؛ لفساد حاسته، مجازٌ في عمى البصيرة وهو عدم الاهتداء إلى طريق النجاة. وقيل: هو حقيقة فيهما. وعليه جوَّز أن يكون {أعمى} الثاني أفعل تفضيل؛ لأنه من عمى القلب لا عمى البصر. ويجوز أن يصاغ من العيوب الباطنة أفعل تفضيل كالأحمق والأبله.
لطيفة:
قال الناصر: يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى. أي: فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه. ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه، ولا ناظر في معاده، فهو في الآخرة كذلك، غير مبصر في كتابه، بل أعمى عنه، أو أشد عمى مما كان في الدنيا، على اختلاف التأويلين. وقوله تعالى: